تشهد الأرض يوم 15 يونيو الخسوف القمري الأول لعام 2011، الموافق 13/ رجب /1432هـ والذي يحدث في العقدة الصاعدة في تقاطع مداري القمر حول الأرض، والأرض حول الشمس جنوب جنوب كوكبة الحواء "اصطلاحا في برج العقرب" ويمر القمر خلال ظل الأرض المظلم قرابة 100 دقيقة، في ظاهرة لم تتكرر منذ يوليو عام 2000 م.
أولاً: أن ال**وف والخسوف وهو ذهاب ضوء الشمس أو القمر ظاهرة كونه وآية ربانيه يقدرها الرب تعالى إذا شاء ، فهو سبحانه المتصرف وحده بهذا الكون.
قال الله تعالى: (وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) [سورة يس].
وقال جلَّ وعلا: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس:5].
وقال سبحانه: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) [الرحمن:5]
وقال سبحانه: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً) [سورة الإسراء:12].
فهذا امتنان من الله على الخلق بهذه الآيات العظيمة ، ومنها الشمس والقمر وضياؤهما ونورهما وتعاقبهما ، ليكون الليل والنهار ، وما يترتب على ذلك من المصالح العظيمة ، وهو قادرٌ جل وعلا أن يسلب خلقه نعمه ويبتليهم بما شاء ، أو يهلكهم كما اهلك الأمم السابقة بالرياح والزلازل والخسوف وغيرها.
ثانياً: قال علماء الفلك الكواكب ومنها الشمس والقمر لكل وحد منها مسار خاص ومنازل محددة ، وبعضها أعلى من بعض ، و بعضها أبعد عن الأرض من بعض ، فإذا مرَّ القمر بيننا وبين الشمس احتجب ضوءها ، إما كلياً أو جزئياً فهذا هو **وف الشمس . وإذا صارت الأرض بين الشمس والقمر فقد تحجب الأرضُ نورَ الشمس عن القمر إذا صار في ظلها فيحتجب ضوءه المنع** من أشعة الشمس ، فهذا هو خسوف القمر ، وقد يكون كلياً أو جزئياً.
فهذا هو السبب الحسيُّ لحدوث ال**وف والخسوف ، وهذا ليس من علم الغيب ، لإمكان معرفته بالحساب كما يعرف الناس وقت كون القمر بدراً ، وأمثال هذا من الظواهر الفلكية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى في سنة 728ه رحمه الله:
وكما أن العادة التي أجراها الله تعالى أن الهلال لا يستهل إلا ليلة ثلاثين من الشهر أو ليلة إحدى وثلاثين وأن الشهر لا يكون إلا ثلاثين أو تسعة وعشرين . فمن ظن أن الشهر يكون أكثر من ذلك أو أقل فهو غالط.
فكذلك أجرى الله العادة أن الشمس لا ت**ف إلا وقت الاستسرار ، وأن القمر لا يخسف إلا وقت الإبدار ، ووقت إبداره هي الليالي البيض التي يستحب صيام أيامها : ليلة الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. فالقمر لا يخسف إلا في هذه الليالي. والهلال يستسر آخر الشهر: إما ليلة وإما ليلتين. كما يستسر ليلة تسع وعشرين وثلاثين. والشمس لا ت**ف إلا وقت استسراره.
وللشمس والقمر ليالي معتادة من عرفها عرف ال**وف والخسوف كما أن من علم كم مضى من الشهر يعلم أن الهلال يطلع في الليلة الفلانية أو قبلها ، لكن العلم عادة في الهلال علم عام يشترك فيه جميع الناس ، وأما العلم بالعادة في ال**وف والخسوف فإنما من يعرفه من يعرف حساب جريانهما. وليس خبر الحاسب بذلك من باب علم الغيب ، بل هو مثل العلم بأوقات الفصول كأول الربيع والصيف والخريف والشتاء ، لمحاذاة الشمس أوائل البروج. وأما تصديق المخبر بذلك وتكذيبه فلا يجوز أن يصدق إلا أن يعلم صدقه ، ولا يكذبَ إلا أن يعلم كذبه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوهم ، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوهم" رواه البخاري.
والعلم بوقت الخسوف وال**وف وإن كان ممكناً لكن هذا المخبر المعين قد يكون عالماً بذلك وقد لا يكون. وقد يكون ثقة في خبره وقد لا يكون. وخبر المجهول الذي لا يوثق بعلمه وصدقه ولا يعرف كذبة خبر موقوف ولكن إذا توطأ خبر أهل الحساب على ذلك فلا يكادون يخطئون.
ومع هذا فلا يترتب على خبرهم علم شرعي ، فإن صلاة ال**وف والخسوف لا تُصلى إلا إذا شاهدنا ذلك ، وإذا جوز الإنسان صدق المخبر بذلك أو غلب على ظنه فنوى أن يصلي ال**وف والخسوف عند ذلك، واستعد ذلك الوقت للرؤية، كان هذا حثاً من باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته ، فإن الصلاة عند ال**وف متفق عليها بين المسلمين ، وقد تواترت بها السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى ملخصاً.
وثمة سبب آخر ل**وف الشمس وخسوف القمر: وهو ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "يخوف الله بهما عباده" رواه البخاري ومسلم.
وفي لفظ أخر رواه احمد والنسائي وابن ماجة و صححه ابن خزيمة والحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَنْ**ِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لحياته ، لَكِنَّهُمَا آيتان مِنْ آيات الله ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا تَجَلَّى لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ يَخْشَعُ لَهُ " والحديث مال الحافظ ابن حجر إلى تقويته ونقل عن ابن بُزيزة قوله: هذا الحديث قد أثبته غير واحد من أهل العلم، وهو ثابت من حيث المعنى أيضاً ، لأن النورية والإضاءة من عالم الجمال الحسي، فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته. ويؤيده قوله تعالى: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً) [الأعراف:143].
قال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: "يخوف الله بهما عباده" وليس بشيء لأن لله أفعالاً على حسب العادة، وأفعالاً خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض. وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها.
قال الحافظ ابن حجر: وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب حقاً في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفاً لعباد الله تعالى. اه.
وبهذا يعلم أن معرفة وقت وقوع ال**وف والخسوف لا يصلح أن تزيل الخوف والرهبة من النفوس، لأن الخسوف وال**وف تحذير من الرب تعالى للعباد، قال الله تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا) [الاسراء:59]. وقال سبحانه: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30].
ولأجل هذا فزع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ، وشرع لأُمته التوبة بالصدقة والذكر وعموم أعمال البر ، وظهر عليه صلى الله عليه وسلم من علائم الخوف والخضوع ما يدل على عظم الخطب.
وقد روي عن التابعي الجليل طاووس بن كيسان أنه نظر إلى الشمس وقد ان**فت فبكي، فقال: هي أخوف لله منا.
ثالثاً: ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الشمس **فت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك بالحسابات الفلكية صبيحة يوم 29شوال 10ه يوافقه 27 كانون الثاني 632م. وقد رؤي ذلك ال**وف جزئيًا في المدينة المنورة، وكان يُرى كليًا من أرض اليمن والحبشة.
وثبت أن المصطفى صلى الله عليه وسلم لما **فت الشمس خرج إلى المسجد مسرعاً فزعاً يجر رداءه ، حتى إنه لاستعجاله أراد لبس ردائه فأخطأ ولبس الدرع ، لاشتغال خاطره الشريف.
وكان **وفها أول النهار ، فأمر بالاجتماع للصلاة، وتقدم وصلَّى ركعتين ، قرأ في الأولى فاتحة الكتاب وسورة طويلة ، جهر بالقراءة ، ثم ركع فأطال الركوع ، ثم رفع رأسه من الركوع ، فأطال القيام وهو دون القيام الأول، وأخذ في القراءة دون الأولى ، ثم ركع وأطال دون الركوع الأول ، ثم رفع ثم سجد سجدة طويلة ، ثم فعل في الركعة الثانية ما فعل في الركعة الأولى ، فكان في كل ركعة ركوعان و سجودان، فاستكمل في الركعتين أربع ركعات وأربع سجدات. هكذا جاء في الصحيحين وغيرهما، وجاءت صفات أخرى أيضاً.
وفي إطالة النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الصلاة طولاً غير معهود, مع أنه يأمر بالتخفيف ما يبين شدة اهتمامه وفزعه عليه الصلاة والسلام.
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته تلك الجنة والنار، وهَمَّ أن يأخذ عنقوداً من الجنة فيريهم إياه ، ورأى أهل العذاب في النار ، حتى تراجع إلى الوراء خشية عذابها.
ثم خطب بعد انصرافه من الصلاة خطبة بليغة، ومما جاء فيها: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا ، يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو أن تزني أَمَته ، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً".
رابعاً: دلَّت النصوص على تأكد صلاة ال**وف والخسوف، وأنها تصلَّى جماعة في المساجد، وفرادى إذا لم يقدر الشخص لمانع، مثل كونه خارج المدينة أو عدم قدرته على الذهاب للمسجد، ويصليها أيضاً النساء في المساجد مع الجماعة، وصلاتهن في البيوت أفضل، لعموم النصوص، ودلت النصوص أنها تصلَّى أيضاً وقت النهى لكونها من ذوات الأسباب، كما أفتى بذلك سماحة شيخنا العلامة الشيخ عبد العزيز بن بار رحمة الله.
خامساً: في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم إبطالٌ لاعتقادات جاهلية يزعم أهلها أن الكواكب تؤثر في الأرض، وزعموا أن ال**وف يوجب حدوث تغير في الأرض من موت أو ضرر ، أو لحيات عظيم أو غيره.
لكن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر يقيناً أنَّ كلَّ ذلك اعتقاد باطل ، وأنَّ الشمس والقمر مخلوقان مسخران لله جلَّ وعلا، ليس لهما سلطان على غيرهما ولا قدرةٌ على الدفع عن أنفسهما.
ومن العجيب أن هذه الاعتقادات والتخمينات ظهرت في بعض مجتمعات عالمنا المعاصر حتى بين من نالوا قسطاً من الحضارة المادية في البلاد الغربية وأدركوا الآيات العظيمة لله في إتقان الخلق وعظمة الكون، ومع هذا يكثر في تلك المجتمعات المنجمون الذين يستخفون بعقول الناس.
سادساً: الذنوب والمعاصي سبب للبلايا والعقوبات العاجلة والآجلة كما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].
وجاء النص في الحديث على أن الله تعالى يخوف ب**وف الشمس والقمر عباده، يخوفهم سخطه وعقوبته، ولا يكون سخط الله وعقوبته إلا بسبب ذنوب العباد وطغيانهم، ففيه رد على من نفى أن تكون هذه الآيات السماوية علامة على سخط الله وغضبه سبحانه، كيف وقد قال جل وعلا: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا) [الاسراء:59].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وفي رواية في الصحيح "ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده" فهذا بيان منه صلى الله عليه وسلم أنهما سبب لنزول عذاب بالناس، فإن الله إنما يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه وعصوا رسله ، وإنما يخاف الناس مما يضرهم ، فلولا إمكان حصول الضرر بالناس عند الخسوف ما كان ذلك تخويفا قال تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً) [الإسراء:59] وأَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بما يزيل الخوف، أمر بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق، حتى يُكشف ما بالناس ، وصلى بالمسلمين في ال**وف صلاة طويلة. انتهى.
قال بعض أهل العلم: خصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الزنا بالذكر في خطبته لأنه من أعظم الذنوب وأبشعها ، وأشدها تأثيراً على النفوس وفي نشر الفساد.
سابعاً: من الحكم في حدوث ال**وف والخسوف تبيين أنموذج لبعض ما سيقع يوم القيامة من اختلال الكون ، كما قال تعالى: (وَخَسَفَ الْقَمَرُ (Cool وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) [سورة القيامة]. ومن كان له قلب فإنه يخاف ويفزع وينيب إلى ربه.
ومن الحكم: الإشارة إلى تقبيح رأي من يعبد الشمس أو القمر، كيف يعبدون ما يصيبه النقص والأُفُول.
وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى: (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) [فصلت:37] على أنه أمرٌ بالصلاة عند ال**وف ، لأنه الوقت الذي يناسب الإعراض عن عبادتها لما يظهر فيهما من التغير والنقص المنزه عنه المعبود الحقُّ تعالى وتقدس.
ثامناً: دلَّت النصوص على استحباب الصدقة والذكر والدعاء عند ال**وف والخسوف، بالإضافة إلى الصلاة، فينبغي الحرص على تلك القربات، وكذا التوبة إلى الله واستغفاره سبحانه حتى يسلم العبد من مَقْتِ الله وغضبه ، وخاصة عند ال**وف والخسوف ، خشية نزول العذاب ، فإن وقت ال**وف والخسوف وقتٌ مخوف أن ينزل فيه عذاب أو فتنة، ولذا بادر المصطفى صلى الله عليه وسلم أشد المبادرة بالمسلمين بالطاعات والإنابة إلى الله سبحانه.
قال سماحة شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله: وما يقع من خسوف أو **وف في الشمس والقمر ونحو ذلك مما يبتلي الله به عباده هو تخويفٌ منه سبحانه وتعالى وتحذيرٌ لعباده من التمادي في الطغيان , وحثٌ لهم على الرجوع والإنابة إليه.
نسال الله جلَّ وعلا أن يغفر لنا ، وأن يتجاوز عن ذنوبنا ، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، إنه سبحانه غفور رحيم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
نقره على هذا الشريط لتكبير الصورة
صلاة الخسوف وال**وف
معنى ال**وف والخسوف:
وال**وف: هو ذهاب ضوء الشمس أو بعضه في النهار لحيلولة ظلمة القمر بين الشمس والأرض.
والخسوف: هو ذهاب ضوء القمر أو بعضه ليلاً لحيلولة ظل الأرض بين الشمس والقمر.
حكم صلاة ال**وف والخسوف:
صلاة ال**وف والخسوف سنة ثابتة مؤكدة باتفاق الفقهاء.
وهي مشروعة حضراً وسفراً للرجال والنساء، أي في حق كل من هو مخاطب بالمكتوبات الخمس: لأنه صلى الله عليه وسلم فعلها ل**وف الشمس، ولخسوف القمر، وللصبيان والعجائز حضورها كالجمعة والعيدين.
وتشرع بلا أذان ولا إقامة، ويندب أن ينادى لها: "الصلاة جامعة"، لأن النبي صلى الله عليه وسلم (بعث منادياً ينادي: الصلاة جامعة) متفق عليه.
وتصلى جماعة أو فرادى، سراً أو جهراً، بخطبة أو بلا خطبة، لكن فعلها في مسجد الجمعة والجماعة أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد.
كيفية صلاة ال**وف:
ذهب الحنفية إلى أن صلاة ال**وف ركعتان كهيئة الصلوات الأخرى من صلاة العيد والجمعة والنافلة، بلا خطبة ولا أذان ولا إقامة، ولا تكرار ركوع في كل ركعة، بل ركوع واحد، وسجدتان.
وذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن: صلاة ال**وف ركعتان، في كل ركعة قياماً، وقراءتان وركوعان، وسجودان. والسنة أو الأكمل أن يقرأ في القيام الأول بعد الفاتحة سورة البقرة أو نحوها في الطول، وفي القيام الثاني بعد الفاتحة دون ذلك أي بقدر مائتي آية مثل آل عمران، وفي القيام الثالث بعد الفاتحة دون ذلك، أي بقدر مائة وخمسين آية، مثل النساء، وفي القيام الرابع بعد الفاتحة دون ذلك بقدر مائة تقريباً مثل المائدة.
فيقرأ أولاً المقدار الأول، ثم يركع، ثم يرفع، ويقرأ المقدار الثاني، ثم يركع ثم يرفع، ثم يسجد كما يسجد في غيرها، ويطيل الركوع، والسجود في الصحيح عند الشافعية، ويكرر ذلك في الركعة الثانية.
ويسبح في الركوع الأول قدر مائة من البقرة، وفي الثاني ثمانين، والثالث سبعين، والرابع خمسين تقريباً.
وذكر الحنابلة أنه يجوز فعل صلاة ال**وف على كل صفة وردت عن الشارع، إن شاء أتى في كل ركعة بركوعين وهو الأفضل، لأنه أكثر في الرواية، وإن شاء صلاها بثلاثة ركوعات في كل ركعة. لما روى مسلم عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم "صلى ست ركعات بأربع سجدات" أو أربعة ركوعات في كل ركعة، لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم "صلى في **وف: قرأ، ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، والأخرى مثلها" رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
أو خمسة ركوعات في كل ركعة، لما روى أبو العالية عن أبي بن كعب قال: "ان**فت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنه صلى بهم، فقرأ سورة من الطوال، ثم ركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم قام إلى الثانية، فقرأ سورة من الطوال، وركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم جلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى **وفها" رواه أبو داود، ولا يزيد على خمسة ركوعات في كل ركعة، لأنه لم يرد به نص.
وإن شاء فعل صلاة ال**وف كنافلة بركوع واحد، لأن ما زاد عليه سنة.
ومهما قرأ به جاز، سواء أكانت القراءة طويلة أم قصيرة، وقد روي عن عائشة : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في **وف الشمس والقمر أربع ركعات وأربع سجدات، وقرأ في الأولى بالعنكبوت والروم، وفي الثانية بيس" رواه الدارقطني.
الجهر والإسرار بالقراءة في صلاة ال**وف:
ذهب أبو حنيفة إلى أنه: يخفي الإمام القراءة في صلاة ال**وف والأصل في صلاة النهار الإخفاء.
وأما صلاة الخسوف فتصلى فرادى سراً.
وذهب المالكية والشافعية إلى أن: يسر الإمام في صلاة ال**وف، ولأنها صلاة نهارية، ويجهر في صلاة خسوف القمر، لأنها صلاة ليل أو ملحقة بها، وقد جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته.
وذهب الحنابلة إلى أنه: يجهر في صلاتي ال**وف والخسوف.
وقت صلاة ال**وف والخسوف:
ذهب الحنفية إلى أن: وقت صلاة ال**وف هو الوقت الذي يستحب فيه أداء سائر الصلوات دون الأوقات المكروهة، لأن أداء النوافل أو الوجبات في هذه الأوقات مكروهة، **جدة التلاوة وغيرها.
وذهب المالكية إلى أنه: لا يصلى ل**وف الشمس إلا في الوقت الذي تجوز فيه النافلة، فوقتها كالعيد والاستسقاء من حلّ النافلة إلى الزوال، فإذا **فت بعد الزوال لم تُصلَّ.
وأما صلاة الخسوف: فيندب تكرارها حتى ينجلي القمر، أو يغيب في الأفق، أو يطلع الفجر، فإن حصل واحد من هذه الثلاثة فلا صلاة.
وذهب الشافعية إلى أنه: تصلى صلاة ال**وفين في جميع الأوقات، لأنها ذات سبب، وتفوت صلاة **وف الشمس: بالانجلاء لجميع المن**ف، وبغروب الشمس كاسفة.
وتفوت صلاة خسوف القمر: بالانجلاء لحصول المقصود، وبطلوع الشمس وهو- أي القمر- منخسف لعدم الانتفاع حينئذ بضوئه. ولا تفوت في الجديد بطلوع الفجر لبقاء ظلمة الليل والانتفاع به، كما لا تفوت بغروب القمر خاسفاً، لبقاء محل سلطنته وهو الليل، فغروبه كغيبوبته تحت السحاب خاسفاً.
وذهب الحنابلة إلى أن وقتها: من حين ال**وف إلى حين التجلي، وإن تجلى ال**وف وهو فيها أتمها خفيفة على صفتها، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود:"فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم"متفق عليه، ولأن المقصود التجلي وقد حصل. ولا يقطع الصلاة، لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ولكن شرع تخفيفها حينئذ لزوال السبب.
وإن شك في التجلي لنحو غيم أتمها من غير تخفيف، لأن الأصل عدمه، فيعمل بالأصل في حال بقاء ال**وف، ويعمل بالأصل في وجود ال**وف إذا شك فيه، فلا يصلي، لأن الأصل عدمه.
وتفوت صلاة ال**وفين بالتجلي قبل الصلاة، أو بغيبوبة الشمس كاسفة، أو بطلوع الشمس والقمر خاسف، أو بطلوع الفجر والقمر خاسف، لأنه ذهب وقت الانتفاع بهما.
خطبة صلاة ال**وف:
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه: لا خطبة لصلاة ال**وف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم" أمر بالصلاة دون الخطبة" وإنما خطب بعد الصلاة ليعلمهم حكمها، وهذا مختص به، وليس في الخبر ما يدل على أنه خطب كخطبتي الجمعة.
وذهب المالكية إلى أنه: لا يشترط لهذه الصلاة خطبة، وإنما يندب وعظ بعدها مشتمل على الثناء على الله، والصلاة والسلام على نبيه، لفعله عليه الصلاة والسلام ذلك.
وذهب الشافعية إلى أن: السنة أن يخطب الإمام لصلاة ال**وفين خطبتين بعد الصلاة، كخطبة العيد والجمعة بأركانهما، اتباعاً للسنة.
ذكر الله تعالى والدعاء:
اتفق الفقهاء على أنه يستحب ذكر الله تعالى والدعاء والاستغفار والصدقة والتقرب إلى الله تعالى بما استطاع من القرب، لقوله صلى الله عليه وسلم:" فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا" متفق عليه ولأنه تخويف من الله تعالى، فينبغي أن يبادر إلى طاعة الله تعالى ليكشفه عن عباده.
والدعاء يكون بعد الصلاة، يدعو الإمام جالساً مستقبلاً القبلة إن شاء، أو قائماً مستقبلاً الناس.
الجماعة في صلاة ال**وف:
اتفق الفقهاء على أن صلاة ال**وف تسن جماعةً في المسجد، وينادى لها "الصلاة جامعة"، اتباعاً للسنة كما في الصحيحين، قالت عائشة: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فقام وكبر، وصف الناس وراءه" متفق عليه. ويصلي بالناس الإمام الذي يصلِّي بهم الجمعة.
ذهب الشافعية والحنابلة إلى جواز: صلاتها فرادى، لأنها نافلة، ليس من شرطها الاستيطان، فلم تشترط لها الجماعة كالنوافل.
وقال الحنفية: إن لم يحضر إمام الجمعة صلاها الناس فرادى ركعتين أو أربعاً، في منازلهم.
صلاة خسوف القمر
ذهب الحنفية والمالكية إلى: أنها تصلى فرادى (أفذاذاً) **ائر النوافل، لأن الصلاة بجماعة في خسوف القمر لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن خسوفه كان أكثر من **وف الشمس، ولأن الأصل أن غير المكتوبة لا تؤدى بجماعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في بيته أفضل إلا المكتوبة" إلا إذا ثبت بالدليل كما في العيدين وقيام رمضان و**وف الشمس، ولأن الاجتماع بالليل متعذر، أو سبب الوقوع في الفتنة.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن صلاة الخسوف تصلى جماعة كال**وف، لما روي عن ابن عباس أنه صلى بالناس في خسوف القمر، قال: صليت كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحديث محمود بن لبيد : "فإذا رأيتموها كذلك فافزعوا إلى المساجد".
صلاة خسوف القمر:
ذهب الحنفية إلى أنه: تصلى صلاة الخسوف ركعتين أو أربعاً فرادى، كالنافلة، في المنازل.
وذهب المالكية إلى أنه: يندب لخسوف القمر ركعتان جهراً كالنوافل بقيام وركوع فقط على العادة.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّ: صلاة الخسوف كال**وف، تُصلى جماعةً، بركوعين وقيامين وقراءتين وسجدتين في كل ركعة، لكنها تؤدى جهراً لا سراً عند الشافعية، كما هو المقرر فيهما عند الحنابلة، لقول عائشة: "إن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته، فصلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات" متفق عليه.